الركب: صراع الهوية والمكان

6 مارس، 2025 | إصدارات المركز, كتب

صدر عن مركز البحوث والتواصل المعرفي كتاب (الركب: صراع الهوية والمكان) للأستاذ الدكتور عباس صالح طاشكندي، في 346 صفحة من القطع المتوسط، وقُسم الكتاب إلى خمسة فصول، سبقها زبدة الكتاب، ثم تقديم للمحقق الكبير الأستاذ الدكتور بشار عواد معروف، ثم مقدمة الكتاب، كما تلا فصول الكتاب الخمسة خاتمة، وكشاف علمي عام، مرتب بحسب حروف المعجم.

ومن المعلوم أنَّ الرَّكب، وسيلةٌ لانتقال الحجيج والمعتمرين والزائرين إلى المشاعر المقدَّسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وفي عرفات، والمزدلفة، ومنى، ومن هذا الواقع فهو مصطلح تَجَذَّر في الذهنيَّة الشعبيَّة لقرون، ليس في مجتمع الحجاز فحسب، بل في المجتمعات الإسلامية كافة، حتى كانت المجموعات البشرية القادمة لأداء الفريضة، تلتحق كلُّ مجموعة منها بركبٍ يحمل هوية الجهة التي ينتمي إليها.

انقسمت هوية تلك الأركاب الحجيَّة إلى فئتين: الأولى ركب السلطة، تسيِّره سلطات الهيمنة والنفوذ والولاية على الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة، وله النفوذ الكامل على الأركاب كافة. الثانية أركاب تابعة، وتكون في الأغلب الأعم، تحت إمرة ركب السلطة والهيمنة ونفوذه، تفرض عليها ما تشاء.

لقد كان ركب الحجيج، على اختلاف انتماءاته، وسيلةً للتواصل العلمي بين العلماء من كلِّ أرجاء العالم الإسلامي وبلاد الحرمين الشريفين، فما من ركبٍ إلا وقد ضمَّ عددًا من العلماء الكبار، يتواصلون في مسيرتهم مع علماء البلاد التي تقع في دروب حجهم، حتى وصولهم إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، فيلتقون بعلماء الحرمين الشريفين، ويتواصلون معهم علميّاً في ساحات الحرمين الشريفين.

وقد كتب الأستاذ نجيب يماني مقالاً عن الكتاب في صحيفة عكاظ، بعددها الصادر يوم الاثنين، 3/مارس/2025م، تحت عنوان: الركب.. خبايا ومقاربات عباس طاشكندي، يقول فيه:

“ظلّت مفردة «الرّكب» قرينة في خاطري، بنتفٍ من أحاديث ومرويات، طرقت أذنيّ في باكر صباي، وقرأت عنها بشوق في بعض المنشورات المتفرقة، فارتسمت لها في مخيلتي مشاعر متفاوتة بين الحنين للماضي، والفخر بأصحابه في عظيم ما ورّثوه من طائف الحب والشّوق إلى الحرمين الشريفين، في رحلة بين مكّة المكرمة والمدينة المنوّرة، نضّت عن زاهي الصور، وبديع المواقف، وصائل الحب الفيّاض..

هكذا كانت صور «الرّكب» في مخيلتي، غير أن الأستاذ الدكتور عبّاس صالح طاشكندي، قد هزّ هذه الصورة هزّاً في داخلي، وحملني إلى النّظر في أبعاد ما خطرت ببالي من قبل، وذلك طيَّ كتابه الماتع الجميل: “الرّكب.. صراع الهويّة والمكان”، فأوّل ما استوقني عنوان الكتاب، ومفردة «صراع» على وجه التحديد، بكل حمولتها المحتشدة بمتوقعات المشاكسة والمعاكظة والمدافعة والتنافس، وكل مستنسلات المرادف من طوابق هذه الكلمة في القاموس الدال على فحواها، وهو أمر يخالف بشكل جذري كل ما وقر في خاطري من أليف الصور، ودافئ المشاعر، وجائش الحنين حول «الرّكب»، فما خرجت الصورة عندي عن تجمّع «المكاويين» ومن رافقهم في رحلة الشوق إلى المدينة المنوّرة، لشرف المثول بين يدي سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، والصلاة في الروضة الشريفة، والتمتّع بزيارة كافة المشاهد التي ترتبط بعهد الإسلام في أوّله، وقد أبدع من وصف ذلك الركب في مشهد مسيره، وما مرّ به في طريقه، ولحظة وصوله، وما يسيل من مشاعر الترحاب والسرور والفرح والوجد، في مقامٍ تصان فيه الآداب، ويعظم فيه الأجر، وتُرعى فيه الحرمات.. والحال كذلك مع رحلة «المدنيين» إلى بيت الله الحرام، في الأرض المقدسة لأداء العمرة، والاستمتاع بمكة المكرمة، ومشاهد أرض الوحي، وحضينة البيت العتيق..
هذا هو المسرح الذي ظلّ بندول «الرّكب» يتراوح فيه في مخيلتي ووعيي..غير أني مع الأستاذ البريع الدكتور طاشكندي، وقفت على عالم جديد، وهو يغوص عميقاً مستجلياً أبعاداً تاريخية غاية في الأهمية حول «الرّكب»، ودوره في تاريخ المسلمين، وخروجه في كثير من المواقف عن معناه الديني التعبّدي، إلى مفاهيم سياسية غاية في التعقيد.. وأبلغ تلخيص لها قول المؤلف في زبدة الكتاب: «الرّكب: ظاهرة أفرزتها الصراعات، وظروف الزمان، وتجاوزتها مظاهر الأمن والأمان، وهوية المكان»، إن هذه الخلاصة التي تطالعك في الصفحات الأولى من الكتاب، لا شك، ستشحن خاطرك بحدوس متقاطعة، وظنون متفاوتة، وتوقعات تخالف ما وطّنت نفسك على فهمه سلفاً، وهو ما يمتعك في سرده والتعريف به الدكتور طاشكندي في فصول الكتاب الخمسة..
ولست هنا بصدد تلخيص هذا الكتاب، فمثل هذه الأسفار التاريخية، لا عوض عن مطالعتها بروية ومكث، ومدارستها بتأمل وبصيرة واعية، لما تنطوي عليه من مراجعات تاريخية غاية في الأهمية، واستجلاء لصور مشوّشة أو مغلوطة أو محرّفة في بعضها، فضلًا عمّا تنطوي عليه نتائجها من تأثير بالغ الأهمية في حاضرنا، بما يعني بداهة انسراب ذات التأثير إلى المستقبل في مأمولاته المرتجاة، ومتوقعاته المنتظرة.

أقول هذا؛ وفي ظني أن أهمّية هذا الكتاب تتجلّى في إلماحة مؤلفه الدكتور طاشكندي، الذكية، وخلوصه البديع، إلى عقد آصرة المقاربة بين مظاهر «الصراع» حول «الرّكب» في كافة العصور السابقة، من مبتدأ عهده حين «كان المحمل عملاً مبتدعاً، يعود للعصر العباسي، حين اتخذه الحُكّام لاحقاً رمزاً وشارة من رموز الخلافة وشاراتها، وعلامة من علامات هيمنتهم على أمور الحرمين الشريفين»، مروراً بالعصر المملوكي، وقد «اتّسم بالتوسّع في وضع المظاهر الاحتفالية الكثيرة على طقوس المحمل، وإحاطته بصور هزلية غطاءً للأهداف السياسية لسلاطين المماليك في بسط نفوذهم على الحجاز»، ونهج المؤلف في قراءته البصيرة حول الأحداث استجلاء و«رصد الوقائع التي عانى منها الحجيج بعد انتقال الولاية من مكة المكرمة والمدينة المنورة في عهد النبوة والخلافة الراشدة إلى الأمويين، والعباسيين، والدول المنشقة عنهم».. إلى أن تبلغ آصرة المقاربة قمتها وذروتها وسنام غايتها في وصول الكاتب إلى مظاهر الرّكب عند قيام الدول السعودية، وقد جعلت من الاستقرار الاجتماعي، وتأمين قوافل الحجّاج مناط مسؤولياتها، وغاية جهدها..
فقارئ هذا الكتاب حرّي به أن يستطيل الوقفة، ويستطيب المقام في هذا الفصل الختام من الكتاب، فهو ملخص ما انتهى إليه الرّكب، ليدرك المعاني العظيمة والغايات النبيلة التي أرستها الدولة السعودية، وخاصة في عهد المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن، طيّب الله ثراه، وقد «أعاد الأمور إلى أصلها وأساسها الشرعي، وحرّرها من كلّ مظاهر البدع والفرقة والاستغلال، فأمِنَ الحجّاج على أنفسهم وأعراضهم»، وبلغت العناية بالحرمين الشريفين، وسبل الوصول إليها درجات من الأمان لم تبلغها في السابق..؛ وعلى هذا يُقرأ الكتاب، ويُنظر في رحلته الماتعة، ونتائجه المبينة لأقدار الرجال، وصنيعهم، وما تركوا في ذاكرة التاريخ، ليُحكم عليهم بميسم العدل في تفاوت صنائعهم..
أشكر الدكتور عباس طاشكندي أن خصّني بإهداء تقصر قامتي عن بديع ما جاء فيه، وأرجو أن تكون في هذه الإشارات البوارق العجلى ما يحفّز الجميع لاقتناء هذا الكتاب ومطالعته بوعي، ومدارسته بالنقد المثري ونرى المزيد من مثل هذه الإصدارات التي تؤرخ وتدون لفترات سابقة من حياتنا”.

هل لديك تعليق؟

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية لتصلك أخبار المركز وجدول فعالياته الثقافية والكتب والدوريات الجديدة على بريدك الإلكتروني

شكرًا... لقد تم تسجيل اشتراكك بنجاح!