هناء لي ينغ
بعد مضي سبعين عاما ونيف على تطور قضية الترجمة في الصين منذ تأسيسها في عام 1949، أضحت الكتب والمجلات الصينية تصل إلى ما يربو على مائة وثمانين دولة ومنطقة في العالم، بأكثر من أربعين لغة، وتبث قنوات الإذاعة والتلفزة بأكثر من ستين لغة صوت الصين في العالم. خلال هذه المسيرة، قدم المترجمون مساهمات لا تمحى في هذه القضية. من أجل تكريم المترجمين الذين قدموا مساهمات جليلة وحققوا منجزات بارزة ويتميزون بأخلاق سامية وسمعة طيبة في مجال الترجمة والنشر الثقافي والتبادل الثقافي، أنشأت جمعية المترجمين الصينية في عام 2006 جائزة “الإنجاز مدى الحياة” التي تُعتبر أعلى وسام تمنحه الجمعية للمترجمين. وفي حفل افتتاح الدورة السنوية لاجتماع جمعية المترجمين الصينية لعام 2023، منحت الجمعية هذه الجائزة لأحد عشر مترجما، من بينهم البروفيسور تشو وي ليه الذي كرس حياته لخدمة الشؤون الخارجية الوطنية وإعداد الأكفاء في الدراسات العربية للصين ودفع التبادل الثقافي بين الصين والدول العربية.
الانهماك في الترجمة لخدمة الأعمال الخارجية الوطنية
وُلد البروفيسور تشو وي ليه في أكتوبر عام 1941، والتحق بكلية اللغات الشرقية بجامعة بكين في عام 1960، ودرس على يد المستشرق الصيني المرموق جي شيان لين والأستاذ الكبير ما جيان (محمد مكين) والأستاذ ليو لين روي (رضوان). خلال فترة دراسته، كان تشو وي ليه حريصا على قراءة الوثائق الثقافية والتاريخية في المكتبة، وتسجيل الملاحظات أثناء الاستماع إلى محاضرات الأساتذة. بعد تخرجه في عام 1965، عمل معلما في جامعة الدراسات الدولية بشانغهاي، وكلّفته الجامعة باستقبال مختلف البعثات العربية والمشاركة في معرض الاستيراد والتصدير الصيني (معرض كانتون)، فاستقبل قادة الدول العربية الزائرين لشانغهاي، ورافق مسؤولي حكومة شانغهاي لزيارة أربع دول خليجية، كمترجم. في الوقت نفسه، أنجز البروفيسور تشو الترجمة والدبلجة العربية لفيلم (جسر نانجينغ على نهر اليانغتسي) وفيلم (الفتاة ذات الشعر الأبيض) وغيرهما من الأفلام الصينية منذ عام 1969.
وفي ناحية الترجمة التحريرية، أنجز ترجمة العديد من الكتب التاريخية والجغرافية مثل “تاريخ المغرب العربي) للدكتور سعد زغلول عبد الحميد في عام 1972، وجزء “الجغرافيا الطبيعية” من (السودان- دراسات عن الأحوال الطبيعية وهيكل السكان والبناء الاجتماعي) في عام 1978 و(الأرض والسكان في سيناء بمصر) في عام 1983. ومن الأعمال الأدبية التي ترجمها: رواية (الكرنك) لنجيب محفوظ في عام 1981، وكتاب (ختم القرآن) الذي صدر في عام 1980 وطبعت منه مئات الآلاف من النسخ وأعيدت طباعته في عام 2019، ورواية (رد قلبي) ليوسف السباعي في عام 1983، وفي عام 1984 قام بتنقيح ترجمة رواية (الأجنحة المتكسرة) لجبران خليل جبران على أساس النسخة المترجمة للأستاذ قوه لي. وفي عام 1982 وعام 1985 ترجم مجلدين من (فنون الشرق الأوسط) لنعمت إسماعيل علام. وفي عام 2001، أنجز ترجمة كتاب (الوطنية في عالم بلا هوية: تحديات العولمة) للدكتور حسين كامل بهاء الدين وزير التربية والتعليم المصري الأسبق، وفي عام 2005 ترجم كتاب (مفترق الطرق) لنفس المؤلف.
منذ ثمانينات القرن الماضي، دعا البروفيسور تشو وي ليه إلى دفع بناء علم الشرق الأوسط والدراسات العربية والعلوم الإسلامية في الصين. نظرا لنقص الكتب العربية والإسلامية الكلاسيكية وضعف الدراسات الأكاديمية المتراكمة في الصين، سعى إلى تكوين فرقة لترجمة ودراسة الكتب الرئيسية للثقافة العربية والحضارة الإسلامية، مع العمل على تعزيز الحوار الحضاري مع دول الشرق الأوسط.
في عام 2002، أدرج مشروع “ترجمة ودراسة الأعمال الكلاسيكية العربية” ضمن المشروعات المهمة لوزارة التعليم الصينية، وتم تكليف الدكتور قه تيه ينغ، تلميذ البروفيسور تشو وي ليه، برئاسة هذا المشروع وتنظيم الخبراء الصينيين للمشاركة فيه. في عام 2010، تولي البروفيسور تشو منصب مدير مركز أبحاث منتدى التعاون الصيني- العربي، فنظّم التبرع بالأموال لمساعدة إطلاق مشروع ترجمة الأعمال الكلاسيكية بين الصين والدول العربية. وكان من ثمار هذا العمل صدور الترجمات الصينية لعدد من أمهات الكتب العربية، منها: (مقدمة ابن خلدون) و(البخلاء) و(مقامات بديع الزمان الهمذاني) و(المعلقات السبع)، بالإضافة إلى (الصين في عيون المصريين) و(في شانغهاي.. معجزة بودونغ) و(العلاقات المصرية- الصينية في 60 عاما). وصدر في السعودية كتاب (رضوان ليو لين روي- من أعلام العربية في الصين) و(محمد مكين.. علّامة اللغة العربية الصيني)، بالإضافة إلى الكتب حول مبادرة “الحزام والطريق” وتاريخ تعليم اللغة العربية في الصين، والتي تتم ترجمتها حاليا.
من أجل تعليم العربية
عمل البروفيسور تشو ثمانية وخمسين عاما في تدريس اللغة العربية، فقد كرس حياته لتدريس لغة الضاد ودراسات الشرق الأوسط. في عام 1978، سافر إلى القاهرة لإكمال دراسته، وكانت هذه أول مرة يخرج فيها من الصين. قال إنه كان شغوفا بمحاضرات الأساتذة الكبار وحديثه مع الأدباء العرب وخاصة الأدباء المصريين. عندما عاد إلى الصين في عام 1980، لم يكن في حقيبته بوزن ستين كيلوغراما غير الكتب العربية. وبعد عودته إلى جامعة الدراسات الدولية بشانغهاي، استفاد في عمله التعليمي والبحثي من تجربة الدراسة في القاهرة، فشغل مناصب مدير مكتب أبحاث اللغة العربية والأدب العربي، ونائب عميد وعميد كلية اللغة العربية، ورئيس مركز أبحاث العلوم الاجتماعية التابع للجامعة، ورئيس معهد دراسات الشرق الأوسط بالجامعة.
وباعتباره قائد الفرع العلمي للغة العربية والأدب العربي بجامعة الدراسات الدولية بشانغهاي، مكّن كلية اللغة العربية بجامعة الدراسات الدولية بشانغهاي من الحصول على الموافقة على إعداد طلاب الماجستير في عام 1987 وإعداد طلاب الدكتوراه في عام 1998، وتم اختيار هذا الفرع العلمي كفرع علمي مهم لمدينة شانغهاي في عام 2001 وعام 2007، واختارته وزارة التعليم الصينية كفرع علمي مهم على المستوى الوطني في ديسمبر عام 2017.
في عام 1985، تولى البروفيسور تشو منصب نائب رئيس جمعية أبحاث تعليم اللغة العربية الصينية، ثم نائب مدير لجنة إرشاد تعليم اللغات الأجنبية الصينية ورئيس فرقة إرشاد تعليم اللغة العربية لهذه اللجنة من تسعينات القرن الماضي إلى عام 2002، وأشرف على وضع الطبعة الأولى لـ(برنامج تعليم اللغة العربية في الجامعات والمعاهد الصينية) في عام 2000؛ وفي ثمانينات القرن الماضي، عندما أنشأت الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية جمعية بحوث الأدب العربي في الصين، تولى البروفيسور تشو منصب نائب رئيس الجمعية لبضع عشرة سنة. في الوقت نفسه، حقق ثمارا أكاديمية وافرة، مثل مشروعات الأبحاث العلمية والأطروحات الأكاديمية والمؤلفات الاختصاصية والكتب المرجعية، فهو رئيس تحرير (قاموس الأدب العربي المعاصر) وأنجز بمفرده (المعجم الميسّر.. صيني- عربي).
جدير بالذكر أن البروفيسور تشو أشرف على تحرير مجلة (العالم العربي) التي تحول اسمها إلى (دراسات العالم العربي) في عام 2006. قال: “لا ينبغي أن يقتصر تعليم اللغة العربية على تربية المهارة اللغوية وتعليم الأدب العربي، بل يجب أن يتسع إلى التعريف بأحوال الدول العربية المختلفة بل وحضاراتها الرائعة عبر منظومة المواد التدريسية الجديدة، لتلبية متطلبات العصر الجديد.” أضاف أنه ألف العديد من الكتب حول الشرق الأوسط، منها: (نظرة على الشرق الأوسط من الشرق الأقصى) و(الدراسات الإستراتيجية حول الثقافات الدولية) و(مجتمعات وثقافات الشرق الأوسط الحديث)، ويرغب في بناء علم الشرق الأوسط ذي الخصائص الصينية، لأن الصين اليوم ليست متفرجة بل دولة فاعلة على المسرح الدولي، وخاصة في شؤون الدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط، وتعمل لتطوير العلاقات الثنائية وبناء التحديثات للجانبين. فيجب أن تهتم الصين بإعداد العلماء الصينيين الذين يعرفون مفهوم حوكمة الدولة وإدارة شؤونها للصين والظروف الصينية وبناء التحديثات في الصين ليقوموا بالبحث والتبادل الإنساني والتعاون الثقافي مع الجانب العربي، تمحورا حول المبادرات الثلاث للرئيس شي جين بيغ حول الأمن والتنمية والحضارة. وقد بدأ النقاش بشأن بناء علم الشرق الأوسط ذي الخصائص الصينية في ندوات مختلفة بالصين، ويجب على الجامعات والمعاهد أن تعمل على الأبحاث الأساسية له، بينما يتحمل العلماء الصينيون مهمة الأبحاث التطبيقية لطرح الآراء عبر المراكز الفكرية المختلفة على أساس المعرفة العميقة عن الدول العربية وبناء نظام الخطاب الصيني في العالم.
في عام 1987، منحت مدينة شانغهاي البروفيسور تشو لقب “عامل التعليم الممتاز”، وفي عام 1991 أثنى عليه مجلس الدولة الصيني ومنحه العلاوة الخاصة، وفي عام 1987، منحته شانغهاي لقب “العامل الممتاز”، وفي عام 2005 كرمته وزارة التعليم العالى والبحث العلمى المصرية، وفي عام 2006 كرمته وزارة الثقافة المصرية، وفي عام 2008 نال جائزة من مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وفي عام 2010 منحته جمعية المترجمين الصينية جائزة “الخبير المتميز في الترجمة الأجنبية”. وفي عام 2014، حصل على جائزة “المساهمات الشخصية” في الدورة السابعة لجائزة الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمية للترجمة في السعودية.
دفع التبادل بين الصين والدول العربية
البروفيسور تشو صاحب مسيرة مهنية زاخرة بالإنجازات، وشغل العديد من المناصب، ومنها: عضو قسم الأبحاث الشاملة للجنة العلوم الاجتماعية بوزارة التعليم الصينية، وعضو مجلس جمعية صداقة الشعب الصيني مع البلدان العربية، ومستشار الجمعية الصينية لبحوث الشرق الأوسط، ومستشار جمعية العلاقات الدولية بشانغهاي، وعضو مراسل لمؤسسة آل البيت الملكية للفكر الإسلامي بالأردن وعضو مراسل لمجمع اللغة العربية بالقاهرة وباحث شرفي بمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالسعودية.
المنصب الذي يعتز به البروفيسور تشو أكثر من غيره، هو مدير لجنة الخبراء لمركز الدراسات الصيني- العربي للإصلاح والتنمية، الذي دعا الرئيس شي جين بينغ إلى إنشائه. يُعد المركز قاعدة فكرية عالمية المستوى ومنصة دولية لتبادل الأفكار تجمع بين وظائف الدورات التدريبية وإعداد الأكفاء والدراسات والبحوث والتواصل الإنساني والثقافي تحت إدارة جامعة الدراسات الدولية بشانغهاي وبرعاية وزارة الخارجية الصينية ووزارة التعليم الصينية وحكومة بلدية شانغهاي. قال البروفيسور تشو: “أشار الرئيس شي في كلمته بالاجتماع الوزاري الثامن لمنتدى التعاون الصيني- العربي في بكين في عام 2018، إلى أن المركز يعمل بشكل جيّد وقد أصبح منصة فكرية لتبادل الخبرات في مجال الإصلاح والانفتاح وحكم البلاد وإدارتها، بين الجانبين الصيني والعربي. وفي المستقبل، سيصبح المركز أكبر وأقوى لتقديم المزيد من الدعم الفكري للجانبين. وأشار الرئيس شي في القمة الصينية- العربية الأولى، إلى أن الجانب الصيني سيواصل تعظيم دور مركز الدراسات الصيني- العربي للإصلاح والتنمية، بغية تعزيز الحوار بين الحضارات وتدعيم تبادل الخبرات في مجال الحوكمة والإدارة. وعندما سمعت كلام الرئيس هذا، تأثرت وسعدت كثيرا، فهذا العمل أكبر شرف في حياتي، فلم أتوقف عن العمل في المركز حتى اليوم.”
قال البروفيسور تشو: “الآن، وقد جاوز عمري ثمانين سنة، يشرفني أن أحصل على جائزة الإنجاز مدى الحياة. أشكر وطني العظيم الذي دخل العصر الجديد لبناء التحديثات، والأساتذة في جامعتي الأم جامعة بكين، وكل القادة والزملاء والطلاب خلال عملي في جامعة الدراسات الدولية بشانغهاي”.
في حيثيات منح جائزة الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمية للترجمة للبروفيسور تشو وي ليه، جاء أنه من أبرز المترجمين العلماء، إذ ظل يهتم بتقديم الثقافة العربية والإسلامية إلى الصين، ويبذل جهودا دؤوبة في مجال الترجمة لبناء جسر التبادل الحضاري بين الصين والدول العربية.
مسيرة البروفيسور تشو قصة ملهمة للمترجمين الصينيين لحثهم على التعلم من الجيل القديم من المترجمين وتوارث وإذكاء روح التفاني لهم، وتحسين المهارة في الترجمة وبذل الجهود لتزدهر قضية الترجمة في الصين.
*مستشار بمركز البحوث والتواصل المعرفي
- نص المقال بصيغة PDF
تشو وي ليه (عبد الجبار).. عالم كبير مفعم بالمشاعر الوطنية
المصدر: الصين اليوم
0 تعليق